24 Mar
24Mar

يعتقد الآخرون (الوثنيِّين) أن هذه الأيَّام بالنسبة لهم غير ملائِمَّة للأعياد. وبالحقيقة ليست هذه الأيَّام فقط بل وكل الأيام الأخرى غير مناسبة لهم، وأنا لا أتحدَّث عن أوقات الحزن بل حتَّى الأوُقّات الَّتي يعتبرونها مُفرِحة جدًّا. فالنَّحيب في كل مكان الآن، والكل ينوح، والعويل يُدوِّي صداه في أرجاء المدينة، بسبب كمّ الموتى والمُحتضَرِين الَّذين يموتون يوم بعد آخر، وهو شبيه إلى حد كبير ما حدث لأبكار المصرِيِّين، فتستطيع أن تقول كما قيل آنذاك؛ ”وَكَانَ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي مِصْرَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْتٌ لَيْسَ فِيهِ مَيْتٌ“ (خر12: 30)، ليس هذا هو كل شيء، لأن الأشياء الَّتي حدثت لنا قبل ذلك كانت كثيرة ومُروَّعة، حيث كانوا يسُوقوننا إلى السُّجون، ويُعذِّبونَنا، وكُنَّا نُقتل من الكل، ورغم هذا كُنَّا نُعيِّد، وتحوَّلت أماكن تعذيبنا إلى أماكن أعيادٍ وفرح، أيّا ما كانت؛ حقول، قفار، سفن، حانات أو سجون، أمَّا الشُّهداء الكاملون فقد احتفلوا بعيد الأعياد في السَّماء، وما لبثْت أن اندلعت الحرب وحاصرنا القحط نحن والأُممِّيِّين على حدٍ سواء، ولكننا قد تحملنا وحدنا كل الإهانات الَّتي أصابونا بها. ثم يجبروننا على أن نتحَّمل معهم نتائج شرورهم تجاه بعضهم البعض، لكِنَّنا كُنَّا نتهلَّل في سلام المسيح، الَّذي أنعم به علينا نحن.

وعندما تبلّجنا قليلا نحن وهم معًا، باغَتَنَا هذا الطَّاعون، الَّذي كان بالنسبة لهم هو الشيء الأكثر رُعبا من أي كارثة أُخرى أَيَّ ما كانت، ويحضرِني اقتِبَّاس لأحد مؤرخيهم يصفه قائلاً: ”الشَّيء الَّذي فاق كل تخيُّلات البشر“، لكن بالنسبة لنا فلم يكن الحال هكذا، إذ لم يكن لنا أكثر من تدريب وتجربة لم تكن أكثر قسوة من باقي التَّجارب، ولم نكن بمنأى عنه، إلا إنَّه كان أكثر بطشًا للأممِّيِّين.

وفي كل الأحداث فإنَّ أغلب الإخوة كانوا أسخياء بحبِّهم الدافق وحُنُّوهم الأخوي، ولم يُهمِلوا الواحد أخيه، ودون أن يحتسبوا لأنفسهم من الهلاك، كانوا يزورون المرضى، يبحثون عنهم بكل جهدٍ ليسعفونهم، ويشتركون في محنتهم بفرحٍ، وكثيرًا ما كانت العدوى تنتقل إليهم، ويتحمَّلون المخاطر طواعيةً، وقد تعافى عدد ليس قليل على أيديهم، في حين أنهم يميتون أنفسهم، وتحوَّلت كلمات المجاملات الرَّقيقة إلى أفعال حقيقية، إذ كانوا يموتون عوضًا عنهم. وقد انتقل من هذه الحياة كثير من أخوتنا بهذه الطَّريقة، ومن بينهم قساوسة وشمامسة وأراخنة موقرين، وطريقة الموت هذه والَّتي تُظهِر قدرًا كبيرًا من التقوى والإيمان غير المتزعزع، لا تقل شيئًا عن الاستشهاد.

وكانوا يأخذون أجساد القِدِّيسين في أياديهم الممتدة ويضمونهم في أحضانهم المفتوحة، ويكتمون أنفاسهم، ويحملونهم خارجًا على مناكبهم، ويتشبَّثون بهم جيِّدا ويحتضنوهم، ويُعِّدونهم جيِّدا لِلدَّفن بالغُسل والأكفان. وبعد إتمام خدمتهم بوقت قصير ينالون هم أنفسهم هذه الخدمة، إذ يلحقون بهؤلاء الَّذين سبقوهُم.

أمَّا الوثنيِّين فكانوا يفعلون العكس تماما. إذ كانوا يهجُرُون هؤلاء الَّذين أُصيبوا، ويتخلّون عن أعز أصدقائهم. وعندما كانوا يشرفون على الموت كانوا يلقونهم في الشواع أحياء، وإذا ماتوا يتركونهم بلا دفن كما لو كانوا منبوذين، وكانوا ينأون بأنفسهم عن أي أمراض مميتة معدية ومنتشرة، ورغم كل احتياطاتهم هذه لم يكن من السَّهل أن ينجوا من الهلاك.


البابا ديونيسيوس السكندري

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.